يعتبر كتاب “قواعد الحزم” للدكتور ادريس أوهلال، من أهم ما كَتَب خلال العشر سنوات الماضية.
كتاب لم يعد ملكه، فلقد تابعت انطلاق شرارة أفكار هذا الكتاب في ربوع الوطن العربي، بل وقد وصلت إلى بعض الدول الأوربية، لتكسر القواعد الكلاسيكية للقيادة والإدارة وحتى مجال التطوير الذاتي.
التهمت الكتاب التهاما فور صدوره، في أقل من أسبوع، وحين أتحدث عن الإلتهام فهذا يعني أن الجوع قد أخذ مكانه في معدة عقلي منذ زمن.. نعم نعم، ذلك الجوع الفكري الذي يحصل حينما يمر وقت طويل دون أن تجد ما تسد به رمقك.. أقرأ وأبحث وأجرب، ولا أجد حلولا لمشاكل القيادة والإدارة. هذا الجوع يذكرني بزياراتي لمحلات خردة السيارات للبحث عن قطع غيار، غالبا أجد ما أبحث عنه و بأقل ثمن، لكنني أضطر إلى زيارة نفس المحلات للبحث مرات عديدة.. هكذا هي قطع الغيار المستعملة، لها مدة صلاحية تنتهي بانتهاء مدة تآكلها.
كتاب قواعد الحزم يكسر هذه القاعدة، إذ يعتبر كإدخال السيارة إلى مصنع الشركة الأم لإصلاح أعطابها، فاتورة التغيير عالية ولكنه تغيير حقيقي.
تزامن وقت التهامي للكتاب مع تنظيم دورة تدريبية لإحدى الجهات الحكومية، وكان موضوع الدورة، التواصل في حالات الأزمات، وكم أحسست بالفخر وأنا أجرب ما قرأت من خلال بعض التدريبات، وكانت الورشات ناجحة بكل المقاييس.
مفاهيم جديدة ومتجددة، قواعد ملهمة، وأقوال لو وزنت ذهبا لرجحت به.. تلكم باختصار ما جاء به كتاب قواعد الحزم.
الحزم، Assertivité بالفرنسية كما صنفته و Assertivity بالإنجليزية، يمنحك فرصة بعيدة كل البعد عن المكر والطيبة والغباء والدهاء وحتى الذكاء. أتعرف ماذا يعني لك أن تحصل على كل ما تريد دون أن تجرح نفسك ودون أن تؤذي الآخرين؟ أليس هذا ما يبحث عنه كل عاقل؟
الكتاب يعطيك فرصة لمراجعة ذاتك وكيف يمكن أن تكون أو لا تكون من خلال المزج بين التراث وقصص التاريخ، وكذا من خلال إضافة نجاعة أدوات التطوير الذاتي كلما اقتضت الضرورة. بعدها يدخلك الكتاب إلى عالمه ويجبرك على الانصياع لقواعده.. “ما خلاص، هذا ما يحصل للسيارات عند دخولها إلى مصنع الشركة الأم”، مصاريف التغيير الشامل ترتفع أكيد. يعرج بك الكتاب إلى معرفة الذات، عبر معرفة عاداتها وأوهامها وأخطائها ومشاعرها وحدودها، وأنت تمر عبر هذه التفاصيل الدقيقة، تستحضر تفاصيل أخرى مرت بك منذ نعومة أظافرك وتطرح أسئلة كثيرة غالبا تبتدئ ب ”لو”.
بعدها ينتقل بك الكتاب إلى معرفة العالم بألعابه وصراعاته وقواعده ولاعبيه، وبرأيي يعتبر هذا الفصل من الكتاب بمثابة مركز العمليات في مصنع السيارات، من هذا الفصل يتفتق التغيير في شخصيتك وتتغير قراءتك للأحداث والأفكار ومنه تنطلق أحصنة المبادرة والقيادة نحو آفاق واسعة دونما رادع.
ومن محاسن كتاب “قواعد الحزم”، الترابط بين أفكاره، في عملية جراحية فكرية تستأصل كل ما هو سلبي وتزرع كل ما هو إيجابي، بواسطة خيوط رفيعة تتماشى مع سائر أنواع الشخصيات والعقليات. فبعد معرفة الذات ومعرفة العالم، ينقلنا الكتاب إلى معرفة العمل، حيث يوضح العائد من العمل وأهمية الشراكات والتحالفات.
وكما لا يمكن لأي مصنع أن يشتغل دون أدوات، فالكتاب ينتقل بنا، في الفصل الثالث، إلى امتلاك الوسائل: المعرفة والكاريزما والعلاقات والمال والسلطة.
بعدها يأتي الفصل الرابع المتعلق بالضبط والانضباط، ويعتبر كذلك من أهم فصول الكتاب، وحينما تحدثت سابقا عن استحالة سد الرمق، فلأن أغلب كتابات ومدارس الفكر القيادي تتجاهل جانب القيم في التعاملات الإدارية والقيادية، لكن كتاب قواعد الحزم يذكرك بضرورة فهم قيمك وقيم الأخرين في حبكة هوليودية تمزج بين تربية الوعي وتربية الإرادة وتربية القدرة.
عرفتَ كيف تكون، وعرفتَ ذاتك والعالم والعمل، وعرفتَ ما يجب امتلاكه، و عرفتَ قيمك وقيم الأخرين، لا ينقصك الآن إلا العمل بحد ذاته.. أترون كيف أن الكتاب جامع وشامل.
أخيرا ينصحك الكاتب بتفادي اللاءات السبع وامتلاك التاءات الخمس للحصول على نتائج عملك وفقا لبعض القواعد الضرورية في إطار الحزم، دون دهاء الماكرين ودون طيبة سفراء النوايا الحسنة.
رجائي أن تنتبه إلى ما جاء به هذا الكتاب مدارسنا العليا للتجارة والتسيير وإداراتنا ومؤسساتنا العمومية ومقاولاتنا وكذلك مكاتب الاستشارة والدراسات، ليكون ضمن المقررات الجامعية والمصادر التدريبية والفكرية، فهو بحق يستحق أن يكون مرجعاً ودليلاً عملياً للقيادة الحازمة بدل نماذج القيادة المستهلكة التي أتت على الأخضر و اليابس.